لماذا لا يمكنك الاستمرار بشيء حتى النهاية؟ الحقيقة التي لم يخبرك بها أحد

هل شعرت يومًا بأنك تفقد الحماسة بسرعة؟
هل تجد صعوبة في إكمال ما بدأت به، سواء في عملك، علاقاتك، أو حتى هواياتك؟
صدقني، لقد مررت بذلك. كنت أتوق لأن أُكمل شيئًا للنهاية، لكن دائمًا ما ينقطع الطريق في المنتصف. في غضون السنوات الأربع الأولى بعد التخرج، تنقلت بين ست وظائف مختلفة، وكنت في كل مرة أنا من يتخذ قرار الاستقالة. أدركت حينها أن هناك مشكلة، لكنني لم أكن أعرف ماهيّتها بالضبط.

رغم ثقتي في قراراتي، بدأتُ أشك في نفسي عندما انهالت عليّ النصائح والتعليقات المحذّرة: “أنت تضرّ بسيرتك الذاتية، الشركات ستراك غير قادر على تحمّل المسؤولية”، “التنقل المستمر يوحي بعدم الاستقرار”، “كيف ستُبنى مسيرتك إذا كنت لا تصبر؟”.
بدأتُ أشكّ فعلًا في قدرتي على الاستمرار.

لكن، كما يحدث دائمًا، هناك أمور لا نفهمها إلا بعد مرور سنوات من التجربة والتأمل. وقد ساعدتني تلك التجارب على إعادة تعريف الاستمرارية من جديد، ومساعدتك الآن لفهم لماذا لا يمكنك الاستمرار بشيء حتى النهاية، وما الحل الحقيقي.


الاستمرارية كما يفهمها الناس: هل هي الصورة الكاملة؟

الغالبية يرون الاستمرارية في الأمثلة التالية:

  • شخص يذهب إلى النادي الرياضي بانتظام منذ ١٥ عامًا.
  • صانع محتوى ينشر يوميًا دون انقطاع.
  • قارئ نهم ينهي كتابين شهريًا منذ خمس سنوات.
  • موظف استمر في نفس الشركة لأكثر من عقدين.

لكن، ماذا عن هؤلاء؟

  • من يهتم بصحته لكنه لا يلتزم بالجيم بشكل ثابت.
  • من ينشر محتوى غير منتظم لكنه لا ينقطع عنه تمامًا.
  • من يطوّر نفسه لكنه لا يُنهي كل كتاب.
  • من يغير عمله كثيرًا لكنه يتعلّم وينضج في كل مرة.

قد تظن أنني أمزح، لكن الحقيقة عكس ما تظن.
المشكلة أننا نقيّم الاستمرارية بالأرقام والمظاهر السطحية، ونربطها بالثبات المادي وتكرار السلوك، بينما يغيب عنا المعنى الحقيقي العميق.


ما هي الاستمرارية حقًا؟

الاستمرارية ليست “كم مرة فعلت الشيء”، ولا “كم شهراً داومت عليه”.
الاستمرارية هي أن تظل منسجمًا مع قيمك ودوافعك الداخلية، حتى لو تغيّرت الوسائل.

إذا تغيّرت الوسائل لكنك لا تزال تتحرك في نفس الاتجاه الذي تمليه عليك قِيَمُك، فأنت مستمر.
الاستمرارية هي الجوهر الداخلي للفعل، لا شكله الخارجي.

دعني أوضح بمثال: إن كنت تهتم بصحتك، فقد تذهب إلى الجيم أحيانًا، أو تركض في الهواء الطلق، أو تركز على الأكل الصحي عند المرض. الوسائل تختلف، لكن الهدف واحد. أنت مستمر.


هل كانت لديّ مشكلة في الاستمرارية فعلًا؟

عندما كنت أتنقل بين الوظائف، لم يكن الدافع هو الهروب من الضغط، بل هو بحثي المستمر عن بيئة تعبّر عن قيمي في التعلّم، التطوير، والتأثير. كل مرة غادرتُ فيها وظيفة، كنت أقترب من ذاتي أكثر، حتى وجدت نفسي في التدريب والكوتشنج وصناعة المحتوى.

ما بدا من الخارج تشتّتًا، كان في الحقيقة سعيًا ثابتًا نحو هدفي الداخلي.


الاستمرارية في التغيير المرن

الإنسان الذي لا يملك مرونة مع نفسه ومع ظروفه لن يستطيع أن يستمر في طريقه طويلًا.
المرونة تعني أن تبقى ثابتًا على القيم، لكن متغيّرًا في الوسائل.
غير مجال عملك، غير طريقتك، عدّل خطتك، لا بأس. طالما لا تزال تغذّي نفس القيمة، فأنت مستمر.

خذ مثالًا: باسم يوسف.
من طبيب إلى ساخر سياسي إلى ستاند أب كوميدي في أمريكا.
ما تغيّر هو الوسيلة، لكن القيمة (النقد، التوعية، التأثير) ظلّت راسخة.


الاستمرارية قرار يومي

قدراتك اليوم ليست نفسها غدًا.
الإنترنت قد يتعطل، المزاج يتغيّر، الصحة تختلف، لكن قيمك الداخلية هي البوصلة التي توجهك.

الشخص المستمر هو من يختار يوميًا ما يخدم قِيَمَه، لا ما يملي عليه الروتين.
إن كنت تتعلم لتطوّر نفسك، فستخترع وسيلة جديدة للتعلم في كل ظرف.


الخلاصة: كيف تصبح شخصًا قادرًا على الاستمرار؟

كل مرة تشك فيها في قدرتك على الاستمرار، تذكّر أن:

  • الاستمرارية ليست عدد الأيام التي داومت فيها على فعل ما.
  • الاستمرارية هي أن تظل وفيًا للقيمة التي اخترتها لنفسك.
  • الوسائل تتبدل، الظروف تتغيّر، لكن إذا لم تتغير قِيَمك، فأنت مستمر.
  • ضع أمامك هذا السؤال يوميًا:
    هل ما أفعله الآن يعبر عن قِيَمي؟
    إذا كانت الإجابة “نعم”، فأنت تسير في الاتجاه الصحيح، حتى وإن بدوت من الخارج متذبذبًا.

لا تكن آلة. كن إنسانًا يعرف وجهته.

رحلتك لا تُقاس بعدد الشهادات، ولا بعدد المنشورات، بل بمدى انسجامك مع ذاتك الحقيقية.
الاستمرارية هي الثبات على جوهرك، لا على جدول أعمالك.

أنت لا تفشل لأنك توقفت عن فعل ما، بل لأنك لم تتأمّل إذا ما كان هذا الفعل يخدم حقيقتك.
استمرّ في التغيير… طالما التغيير يقربك من ذاتك.


بقلم: م. إسماعيل خزنة

اترك رد

Shopping Cart